فصل: تفسير الآيات (15- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 19):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}
منطِق الطير: لغته. حشر: جمع. يوزعون: يمنعون من الفوضى ويسيرون بانتظام. لا يحطمنّكم: لا يهلكنكم. أوزِعني: يسِّر لي شكر نعمتك.
ذُكرت قصةُ داود في تسع سورة هي: سورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام والإسراء والأنبياء وسورة النمل، وسبأ، وص، وورد ذكر سليمان في سبع سور هي: البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وص.
وجاء ذكر داود هنا فقط، وبُسطت قصةُ سليمان بتوسع في هذه السورة اكثر مناه في اية سورة اخرى، وركزت على قصة سليمان مع الهدهدِ وملكةِ سبأ، ثم مشهد موكبه العظيم، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب، وبذلك سُميت السورة (سورة النمل) وذلك من الآية 15 إلى الآية 44.
ولقد اعطينا داود وسليمان عِلما، فَحَمِدا الله على ما أولاهما، وفضّلهما بذلك على كثير من المؤمنين. ويتبين لنا من الآية الكريمة فضلُ العلم وشرفه وشرف أهله، وأن الإسلام قام على العلم كما ورد في اول ما نزل منه: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ....} وفي آيات كثيرة، كقوله تعالى: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} سورة المجادلة.
وقد آل الحكمُ والنبوة من داودَ إلى سليمان ابنه، الذي أخبرَ الناسَ تحدُّثاً بنعم الله عليه بأنه أثوتي فَهْمَ لغة الطير، وانه مُنح من جميع النعم قسطاً وافرا، وان هذا الذي آتاه الله لهو الفضل الكبير. وقد دلّت الابحاث الحديثة على أن لكل جماعةٍ من الطير طريقة خاصة تتفاهم بها الأفراد.
وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يتلاحقون، حتى إذا مروا بوادٍ فيه نمل كثير قالت نملة لجماعتها: يا معشر النمل، ادخلوا مساكنكم لا يهلكنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم. فسمعها سليمان فتبسم ضاحكا متعجباً من قولها، وسأل الله تعالى ان يلهمه شكره على ما انعم عليه وعلى والديه من عِلم وملك، وان يوفقه للعمل الصالح الذي يرضاه، وان يدخله في رحمته وكرمه وفضله ويجعله من جملة عباده الصالحين.
وقد كتب كثير من الكتاب والباحثين عن معيشة النمل ونظامها، وما لها من عجائبض في معيشتها وتدبير شئونها، ومثابرتها على العمل. وانها تتخذ القرى في باطن الأرض، وتخزن قوتها لأيام الشتاء.

.تفسير الآيات (20- 26):

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}
تفقّد الشيء: سأل عنه وطلب معرفة احواله. بسلطان مبين: بحجة واضحة. أحطتُ بما لم تحط به: علمتُ أشياء لا تعرفها. سبَأ: أبو قبيلة من اليمن، ومملكة ظهرت في شرق المنطقة المعروفة الآن باسم صِرواح ومأرِب فسميت البلاد باسمها، واليها تنسب اللغة السبئية والديانة السبئية. بنبأ: بخبر عظيم. العرش: سرير الملك. فصدّهم عن السبيل: منعهم عن طريق الحق والصواب. يُخرج الخبء: يخرج المخبوء من كل شيء.
وتفقد سليمان جماعةَ الطير التي تجتمع عنده فلم يجد الهدهد، فقال: أين الهدهد، فقال: أين الهدهد، اين غاب عني؟ ثم توعده بالعذاب إذا لم يجدْ سبباً يبرر به غيبته، أو يأتِهِ بحجّة واضحة تظهر له عذره. وجاء الهدهد بعد غياب قليل وقال لسليمان: علمتُ ما لم تعلم، وجئتك من دولة سبأ بخبرٍ ذي شأن عظيم. إني وجدتُ في سبأ امرأةً تحكمهم، أوتيتْ من كل شيء يحتاج اليه الملوك في تَرَفِهم، ولها عرش عظيم. وهي وقومها يعبدون الشمس ولا يعبدون الله، لقد زيَّن الشيطانُ لهم عبادتعهم وأبعدهم عن دين الله فهم لا يهتدون، وأمَرَهم ان لا يسجدوا لله الذي يُخرج كل شيء مخبوء في السماوات والأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم}. وهنا موضع سجدة.

.قراءات:

قرأ ابن كثير: {اوليأتينَّني} بنونين، والباقون: {او ليأتينّي} بنون واحدة. قرأ عاصم: {ومكَث} بفتح الكاف. والباقون: {ومكُث} بضم الكاف وهما لغتان. وقرأ ابن كثير: وأبو عمرو {من سبأَ} بتفح الهمزة على انه ممنوع من الصرف، والباقون: {من سبأ} بالتنوين والجر.

.تفسير الآيات (27- 35):

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
تولّ عنهم: تنحّ، ابعد عنهم. ماذا يرجعون: ماذا يدور بينهم. الملأ: اشراف القوم. ألاّ تعلو عليَّ: الا تتكبروا. مسْلِمين: منقادين. افتوني: أشيروا علي. ما كنت قاطعةً أمراً: ما كنت لأعملَ أي شيء. حتى تشهَدون: حتى تحضرون.
أراد سليمان ان يختبر الهدهد: أصادق هو ام كاذب.؟ فأعطاه كتاباً ليوصله إلى ملكة سبأ، واسمُها بلقيس. ذهب الهدهد بالكتاب وألقاه على سريرها، فاخذته فإذا به: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.
لم ترِد الملكة ان تستبدّ بالجواب، شأن بعض الملوكن فجمعتْ رجال دولتها وأشراف القوم وأطلعتْهم على الكتاب. فأخذتهم العِزّةُ وثارت فيهم الحماسة وقالوا: {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ}.
وكانت الملكة عاقلةً فنظرت في الأمر بعين الفطنة، ولم تغترّ بما أبداه رجالها من الحماسة وقالت لهم: إن دخول املوك المدنَ والقرى فاتحين ليس من الأمور الهّينة، وليس أثره بالسّهل على أهلها. (وكان من عادات الفاتحين قبل الإسلام ان يستعبِدوا المغلوبين، ويذبحوا رجالهم ويستحييوا نساءهم ويفسدوا الحرث والنسل). وعرضتْ عليهم رأياً آخر وجدته أقربَ إلى حلّ هذه الأزمة التي أتتها من حيثُ لم تحتسِب، ذلك ان تُرسلَ إلى سليمان بهدية تصانعه بها، وتطلب مودّته، ثم تنظر ماذا يرجع به رسُلُها إلى سليمان.

.تفسير الآيات (36- 40):

{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
لا قِبل لهم بها: لا طاقة لهم بمقاومتها. صاغرون: مهانون محتقرون. العرش: سرير الملك. العِفريت من البشر: الخبيث الماكر، ومن الشياطين: المارد. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب: رجل أعطاه الله علماً خاصا، وقوة روحية. قبل ان يرتد اليك طرفُك: قبل ان تطرف عينك، والمراد هو السرعة الفائقة. ليبلوَني ربي: ليختبرني ربي.
فلما جاء رسلُها إلى سليمان بالهدية لم يَقبلْها وقال إنه ليس في حاجةٍ إلى اموالهم لما عنده من الثروة والملك، كما توعّدهم بأنه سيرسل إلى بلادهم جنوداً لا طاقة لهم بهم، وان اقبة ذلك إخراجُهم من بلادهم أذِلَّةً صاغرين.
فلما جاء الخبر من الرسُل إلى الملكة وعلمت عظَمةَ سليمان وقوة ملكه- أشفقت على قومها. فأجمعت أمرها على الذهاب إليه في بعض أشراف قومها وتوجهت إلى القدس بهدية عظيمة. ولمّا علم سليمان باعتزام ملكه سبأ زيارته، شيّد لها صَرحاً عظيما، ومرَّدَ أرضَه بالزجاج: وهذا شيء لا عهد لأهل اليمن بمثله.
ولما قربت من ديار سليمان أراد ان يفاجئها بشيء يَبْهَرُها، كأن ترى بعينها ما لم تر من قبلُ في الاحلام، وهو أن يأتيها بعرشِها الجميل ليكون جلوسُها عليه في ذلك الصرح. فسأل جنوده عن قويّ يأتيه بذلك العرش: فانتدب له عفريت من الجن وقال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}
إني لقادر على ذلك وأمين على كل ما في العرش من جواهر وحلي. وقال رجل {عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} وكان الأمر كما قال. فجاء به ووُضع في الصرح الذي هُيِّئ لاستقبالها. فلما رأى سليمان عرش بلقيس أمامه قال: الحمد لله.... هذا من فضلِ ربي ليختبرني أأشكر ام اكفر.. ومن شكَر الله ففائدة الشكر تعود اليه، ومن جَحد ولم يشكر فان الله غنيّ عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وان لم يعبدوه.
اما الطريقة التي جيء بها بالعرض فشيءٌ لم يأت تفصيل له بخبر صحيح، وهو معجزة خارقة للعادة، كبقية المعجزات نسلّم بها تسليما.
وأهل القصص وبعض المفسرين يذكرون ان سليمان تزوّج منها وجاءه منها ولد، ويزعم ملوك الحبشة أنهم أبناء سليمان من الولد الذي ولدته من سليمان، لكن هذا زعمٌ منهم.

.قراءات:

قرأ حمزة ويعقوب: {اتمدونّي} بنون واحدة مشددة. الباقون: {اتمدونني} بنونين.

.تفسير الآيات (41- 44):

{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
نكّروا لها عرشها: غيِّروا فيه. صدّها: منعها. الصرح: كل بناء مرتفع. حسبته لجّة: ظننته ماء. ممرَّد: ذو سطح املس. من قوارير: من زجاج وتحته الماء.
وقال سليمان لجنده: نكِّروا لها عرشها ببعض التغيير في مظاهره. وسنرى هل تعرفه ام لا. فلما جاءت ورأت العرش قِيل لها: أهكذا عرشك؟ فقالت: كأنه هو. وقال سليمان وقومه: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لله ولحكمه. وهذا قول اكثر المفسرين، وبعضهم يجعل عبارة: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من قول بلقيس ويكون معنى الكلام: وأوتينا العِلم بكمال قدرة الله وصِدق نبوتك من قبلِ هذه المعجزة بما شاهدناه وبما سمعناه، وكنا منقادين لك من ذلك الحين.
ثم ذكر سبحانه ما منعها من إظهار ما ادّعت من الإسلام إلى ذلك الحين فقال: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ}
ولقد صرفها عن عبادة الله ما كانت تعبده من آلهة غير الله تعالى، فانها كانت تعبد الشمس، وكانت من قوم كافرين.
{قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ}
ولما أرادت دخول الصرح والوصولَ إلى العرش رأت ماءً يتموّج، فيه انواع من حيوان البحر ودوابه. فكشفت عن ساقيها لئلا تبتلّ أذيالها بالماء، كما هي عادة من يخوض الماء. فقال لها سليمان: إن ما تظنّينه ماءً ليس بالماء، بل هو صرح أملسُ مكوَّن من زجاج: فراعها ذلك المنظر، وعلمت ان مُلكها لا يساوي شيئا بجوار ملكِ سليمان، فقالت: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين}.

.تفسير الآيات (45- 53):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)}
فريقان: طائفتان. طائفة مؤمنة، واخرى كافرة. يختصمون: يتنازعون. السيئة: العقوبة. الحسنة: الرحمة. اطّيرنا: تشاءمنا. طائركم: ما يصيبكم من الخير والشر. تفتنون: تختبرون. المدينة: الحِجر، مداين صالح. الرهط: النفر من الثلاثة إلى التسعة. تقاسموا: حلفوا. لنبيتنّه: نهجم عليه بغتة ليلا. وليّه: أقرب الناس اليه. مهلك اهله. أهلاك أهله. دمرناهم: أهلكناهم. خاوية: خالية.
ولقد بعثنا إلى قوم ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم اعبدوا الله، فإذا هم طائفتان يختصمون: جماعةُ تؤمن بالله، واخرى كافرة، هي الأكثرُ والأقوى. فقال صالح لقومه: لِمَ يستعجلون طلبَ العذاب قبل الرحمة؟ هلاّ تستغفرون ربكم لعله يرحمكم! قالوا: إننا تشاءمنا بك وبمن اتبعك. (وأصلُ التطيرُّ: إن العرب كانوا إذا خرجوا مسافرين فمرّوا بطائر وزجروه فان طار إلى جهة اليمين تيمّنوا به، وان مرّ إلى جهة اليسار تشاءوموا به).
قال لهم صالح: إن سببَ تشاؤمكم هو كفركم بالله، فقد اراد الله ان يختبركم ليعرف من منكم سيؤمن، ومن يكفر.
وكان في مدينة صالح تسعةُ رجال من المفسِدين، طواغيتُ لا يسلم من شرهم احد، تحالفوا على مباغتته ليلاً وقتله هو واهله، وان يقولوا لوليّ دمه: لا علم لنا بمن قتلهم. ومكَر هؤلاء مكرهم، ودبّر الله ردّ كيدهم في نحرهم وهم لا يشعرون، فكان عاقبة مكرهم ان دمّرهم الله أجمعين. وتلك بيوتُهم خالية. والمشركون من مكة يمرّون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي وخلف: {لتبيّتنّه واهله ثم لتقولن}، بالتاء، وقرأ مجاهد: {ليبيتنه} بالياء، والباقون: {لنبيتنه....} بالنون. وقرأ عاصم: {مهلك اهله} بكسر اللام، وقرأ أبو بكر: {مهلك} بفتح الميم واللام. والباقون: {مهلك} بضم الميم وفتح اللام.